كيف نقيم المقالات العلمية قبل النشر؟

تعيش كبريات المجلات العلمية عبر العالم هذه الأيام نقاشا حيويا حول أمثل الطرق وأكثرها موضوعية في التقييم والتصديق العلمي على المقالات المعروضة عليها للنشر. نقاش لايقل أهمية عن المطارحات العلمية نفسها التي تتضمنها هذه المجلات بمختلف تخصصاتها ومشاربها.
 تقتضي مسطرة المصادقة على النشر في مختلف المجلات الدولية المُحكَمة تكليف خبيرين أو أكثرمن ذوي الخلفية العلمية المعترف بها، بتحليل المقالات أوالدراسات أوالأبحاث وإنجاز تقارير تكون هي المحدد الرئيسي لقرار الهيئة الناشرة. التوافق النسبي الذي لازال يحضى به مثل هذا الإجراء لم يمنع بعض الدوائر المتابعة عن قرب للبحث العلمي عبر العالم من التنبيه إلى تواثر عمليات الغش والسرقات العلمية وغيرها من الممارسات التي لم تستطع الإجراءات المعتمدة لحدود اليوم من محاصرتها، هذا إن لم تكن هي نفسها ساهمت فيها، مما باتت معه موثوقية ومصداقية النشر العلمي في مهب الريح.

في خضم هذا الجدل يطرح المتتبعون للشأن العلمي وبإلحاح السؤال التالي: هل سيكون من الأفيد وتحصينا للمجهود العلمي للباحثين، الاعتماد على خبراء "غفل" لتقييم الأعمال العلمية المعروضة للنشر، أم أنه من الأفضل أن يبقى طرفي العملية مكشوفين لبعضهما البعض؟ مجلة "نيتشرNature" التي أحيت هذا الجدل مؤخرا، بادرت إلى اقتراح قرار أكثر راديكالية يتمثل ليس فقط في اعتماد خبراء أو حكام Referees))"غفل" لا يعرفهم من رشحوا مقالاتهم للنشر بل جعلت المقالات نفسها سرية من خلال حجب مصدرها.
فإذا كان من إيجابيات عدم معرفة الطرف الثاني بالطرف الأول هو ضمان موضوعية أكبر للخبراء من خلال تحصينهم ضد التدخلات المحتملة للمؤلفين، فإن اعتماد "السرية المزدوجة" سيجعل المؤلفين كلهم على قدم المساواة أمام الحكام الذين قد يتعرض بعضهم لإغراء ضمني بمجرد معرفتهم بالمكانة الأكاديمية لمؤلف الدراسة موضوع التقييم أوبإسم المختبر المغمور أو ذي الصيت العالمي الذي ينتمي إليه فريق البحث.
 فرانسواز كومب الباحثة الفرنسية في مجال الفيزياء الفلكية وعلوم الفضاء والأستاذة ب "كوليج دو فرانس"، ترى أنه "من الصعب جدا التكتم التام على مصادر الأبحاث وعلى أسماء المؤلفين"، ففي تقديرها "أن المنتسبين للمجتمع العلمي يعرفون بعضهم البعض، و حتى دون الإطلاع على أسمائهم فالحكام لهم ما يكفي من الخبرة والكفاءة لتحديد من وراء الأبحاث والدراسات. ولأن المؤلفين يشيرون في المراجع المعتمدة إلى أبحاثهم السابقة أو أبحاث زملائهم فمن اليسير على الحكام تخمين الأسماء الكامنة وراء الأبحاث كما أكدت ذلك التجربة التي قامت بها "الأمريكان فيزيكس سوسايتي" والتي خلصت إلى أن العملية برمتها لم يكن لها أثر ملموس على تطور الأبحاث المرشحة للنشر.

هذا الطرح الذي ترد عليه مجموعة "نيتشر" بضرورة قيام المؤلفين أنفسهم بمسح و"تنظيف" مقالاتهم من كل إشارة دالة على هوياتهم (تنويهات، أسماء أماكن، منح...)، يجد البعض أنه إجراء يشكل عبأ إضافيا يثقل كاهل الباحثين وهو ما أكدته نسبيا دراسة قامت بها مجموعة "نيتشر" ذاتها سنة2013 على مجلتين من مجلاتها الدائعة الصيت ويتعلق الأمر تحديدا بNature Climate Change وNature Geoscience والتي خلصت إلى أن 20% فقط من المؤلفين هم من أبدوا اهتماما بمثل هذا الإجراء.
 من جهة أخرى وعلى طرف النقيض من الموقف المنافح عن "السرية المزدوجة" في تقييم أعمال الباحثين يرى "تريش كروفز" مسؤول البحوث في مجموعة "بريتيش ميديكال جورنال"أن هذا المقترح يشكل تراجعا غير محمود عن قيم الشفافية ، وهو موقف مفهوم لهذه المجموعة الناشرة لأحد أرقى المجلات العلمية في مجال الطب British Medical Journalالتي تفرض على "حكامها" توقيع تقاريرهم وتضمينها كافة الحجج العلمية عوض الاكتفاء مثل بعض المجلات بتقارير مقتضبة لاحجة لها غير حجية السلطة المخولة للحكام في القبول أو الرفض.

كل هذه التجارب والمقترحات تبقى مؤشرات إيجابية تبين مدى حرص المجتمع العلمي على تدبير خلافاته الأكاديمية بشفافية قد تتوسع غدا بفضل التكنولوجيات الرقمية لتشرك كل أطياف الباحثين عبر العالم في التعليق والمناقشة للمقالات العلمية.

يوسف سيمو: عن جريدة لوموند الفرنسية بتصرف

Commentaires